وراء كل مكتشف فضيحة رجل عظيم وذكي وألمعي. وهذا ما ظهر عبر فضيحة البنك البريطاني إتش إس بي سي. ولكن أن يعمل رجل واحد على إخراج كل هذا ليس بالأمر الهيّن أبدا. إذن، فلا بدّ، أن تكون
له وجوه كثيرة، أو لنقل أقنعة عديدة، إذ غالباً ما تحظى هذه المراكز الكبرى، يخاصة المالية بحراسة ذاتية رهيبة، تصل أحيانا كثيرة إلى تعميم الوشايات ونشر مناخ رهيب من القلق والريب.
من هو هذا الرجل الذي يشبه، في كثير من الجوانب، الخبيرَ في المعلوماتية اللبناني الآخر، عماد لحود، في قضية "كليرستريم" الشهيرة في فرنسا؟
نحن أمام هذا الرجل اللبناني، هيرفيه فالسياني، الخبير في المعلوماتية والقادر على اكتشاف وتلمس المعطيات الحساسة، وصاحب القدرة الشديدة على المناورة، وباعثُ الإنذارات والتحذيرات، ثم أخيرا ضحية لهذا النظام المصرفي الرهيب والمريب. ومَهْما قيل عن فالسياني، فهو يظل مُرتَكَزَ قضية إتش إس بي سي ومُولِّدَها.
بعد خمس سنوات من قراءة وتفحص ملايين من الأرشيفات الخاصة جداً ومن الاستماع لشهادات غير منشورة، يمكن التعرف على الحياة الحقيقية لهيرفيه فالسياني.
تخفَّى هيرفيه في البداية تحت اسم مستعار هو روبن الشدياق (واسم الشدياق نار على علم). وكان الجميع، في سويسرا وموناكو، يعرفون هذا العاشق للحياة (الكثير الحديث مع نزوع للادعاء والماكر والمبذّر، ولاعب البوكر الكبير وعاشق النساء، مع ميل شديد للكذب، وشدة المناوَرَة)، باسم هيرفي فالسياني. هو خبير مرموق في الإعلاميات، ابتدأ عمله في مصرف إتش إس بي سي، سنة 2006، في فرعها السويسري. وكان، سابقا، كروبييه (مديرا لمائدة القمار) في كازينو ما بين سنتي 1992 و2000. تزوج الرجل مرتين، له ابنة، وهو على أهبة الطلاق، ثانية.
والغريب أن رجلا بمثل هذه المواصفات تُعهَد إليه أسرار أحد أقوى المصارف الخاصة في العالَم، التي يشترط فيها لكل من يفتح حسابا أن يتوفر على مليون دولار، على الأقل.
وعلى الفور تُعهد إليه مهمة خاصة تتلخص في وضع نظام (CRM) [إدارة العلاقات مع الزبائن] من أجل تسهيل التبادل بين المصرف وزبائنه. وقد أبان عن مهارة كبيرة في هذه المهمة في موناكو، التي على الرغم من بساطتها فإنها طويلة ومُستنزِفة، بحيث إنه يتم نقل معطيات النظام المعلوماتي القديم، سيفيكس، التي وضعت بشكل مبوب كل تفاصيل مالكي الحسابات إلى نظام جديد، CRM.
كان الشغل الشاغل للمصرف سنة 2006 هو جعل النظام أكثر مهنية وعملياتية. ولا شك، كما يرى موظفو المصرف، أن هيرفيه اكتشف ثغرة في النظام المعلوماتي ما بين 2006 و2008، أثناء حادث ظلت فيه قوائمُ مصرف إتش إس بي سي غير مشفرَّة. وما يفسر الأمر، ربما، هو ما صرّح به أحدُ الموظفين فلورونت دونيني من أن "هيرفي كان مكلَّفا، لوحده، ببناء قاعدة البيانات CRM"، ويضيف: "هيرفي رأى بيانات إنتاج غير مشفرة، واستمر العطل ما بين 4 و5 ساعات، وكان بالإمكان أن يقوم باستنساخها".
كان من المفترض أن يقوم فالسياني بالتخلص من هذه البيانات بمجرد أن يعالَج الحادث، ولكنه، كما يقول موظف آخر، رولاند فيزا: "بارع، نسبيا، من الناحية التقنية، ولكنه، إنسانيا، شخص مناور، بله مهووس بالكذب". وهو كاف "لإطلاق ميكانيزم التدمير"، وخصوصا أن ظروف الشغل، بالنسبة لهيرفيه، بدأت تسوء، إذ اختار المصرف موديلا CRM آخَر غير الذي اختاره فالسياني، كما أن الإدارة رفضت تشغيله في وظيفة أمن شاغرة.
إذن فتوابل الانفجار مجتمعهٌ في شخصية هيرفيه: "رجل مُحبَطٌ، على المستوى المهني، ومُغامر، عاطفيا، وغير مستقر، انتهى به الأمر إلى الحصول على بيانات سرية عن زبائن المصرف ثم تكديسها".
ولكن الأمر يبقى افتراضات، فهيرفيه يقرّ بسرقة بيانات، ولكنه يشدّد على أنه استفاد من مساعدين في الداخل، بناء على محفزات أخلاقية. ويقول إنه لم تكن لديه سلطة للوصول إلى معطيات عملياتية، ولكنه كان يشتغل على كل المواضيع الحساسة، في ارتباط بموظفي المصرف، فكانوا يحكون له كل ما يحدث. وبالتالي فعن طريق هؤلاء الوسطاء استطاع هيرفيه، كما يقول، أن يصل إلى المعلومة. وينتهي به الأمر إلى "التأكد من وجود تناسق بين هذه المعطيات جميعها".
ولكن المحققين السويسريين لا يصدقون رواية هيرفيه، ويريدون محاكمته أمام القضاء الفدرالي السويسري، الذي يمتلك عناصر صلبة، تثبت أنه لم يتوفر على مساعدين ولا وجودَ لأي محفزات أخلاقية ممكنة.
وعلى أي حال فقد أصبح صاحبنا يمتلك، منذ سنة 2008، آلاف البيانات الحساسة والنادرة. أي حسابات 107181 شخصاً، من الذين يُفترض أنهم متهربون من الضرائب.
وهي قوائم تساوي الذهب. ولكنه يحاول أن يفسر الأمر بمنطق البراءة والأخلاق، "مرسل تحذيرات"، أي من أجل "إدانة ممارسات غير قانونية". قد يكون الأمر صحيحا، ولكن دراسة الوقائع تثبت أنه، في بدايات مغامرته، على الأقل، لم يكن من الطهارة والنقاء اللذين يريد أن يُسبغهما على نفسه.
وهذا ما كشفت عنه إحدى عشيقاته، جيورجينا ميخائيل، وهي لبنانية فرنسية، التي اعترفت للسلطات السويسرية سنة 2008 بأن هيرفي في بدايات علاقتهما الغرامية كشف لها أنه يمتلك قاعدة بيانات يريد أن يبادلها بالأموال حتى يُوفّر ما يمكن له أن يمنحه لزوجته في إطار الطلاق منها. وحذّرها من مغبة إفشاء خبر هذه المعلومات.
وفعلا سافر فالسياني ما بين 2 و9 شباط/فبراير 2008 إلى لبنان من أجل بيع القوائم للمصارف اللبنانية، كما تقول العشيقة ميخائيل، ولكن هيرفيه يصر على أنه كان يريد دق ناقوس الخطر، وكشف النظام الذي ساهم في صنعه. ذهب إلى لبنان، ولم يتوجه عند السلطات السويسرية لأنّ "سويسرا لم تكن تحقق حول المصارف. لا يجب أن ينخدع المرء، لأن سلطة المال تعبّر عن نفسها بهذه الطريقة.
في هذه اللحظة ظهر اسم روبن الشدياق لأول مرة. وفي هذه اللحظة ظهرت هويات ووثائق مزورة، وشركة وهمية، "بالوفرا"، تم إنشاؤها في هونغ كونغ. ادعى الشدياق أنه مسؤول تجاري لدى أربعة مصارف لبنانية، وأدخل معه في هذه المغامرة أخاه، فيليب فالسياني، في مغامرة "مشروع داتا"، والذي اعترف لاحقا بأنه كان من أجل المال.
حسب العشيقة ميخائيل، فإن هيرفيه حدّد ثمن 1000 دولار مقابل كل اسم يكشف عنه."يطلع هيرفيه المصارف على قائمة ضخمة من بروفايلات زبائن بأسماء مشفرة، بهدف بيع هذا المنتوج والمتاجرة".
والأدهى أن بعض المصارف اللبنانية توافقت مع رواية ميخائيل، وهذا ما أكده موظف في مصرف بي إن بي باريباس، ومصرف أودي. وأيضا مصرف بلومينفيست.
فالسياني لا يستقيم على رواية واحدة، كل ما يهمه هو المنفعة التي يمكن له أن يقطفها من اللحظة. فالفارق كبير بين ما قاله لرجال الدرك سنة 2009 من أنه كان له مشروع إنجاز برمجيات داتا مينيغ وما قاله للقاضي رونو فان رويمبيك، سنة 2013 من أن "هدفه الوحيد هو إطلاق تحذير لمصرف لبناني، هو فرع لمصرف سويسري، حتى يبعث هذا الأخير هذا التحذير للادعاء الفيدرالي السويسري، من أجل وضع حد لانعدام الشفافية في مصرف إتش إس بي سي".
لم يكن هيرفيه السبّاق في هذا العمل، بل سبقه في ربيع 2008 موظف في مصرف إل جي تي في ليشتنشتاين، باع قوائم أقل أهمية من قوائم هيرفيه لجهاز الضرائب الألماني مقابل 5 ملايين يورو. ويعترف هيرفيه أن هدفه الوحيد هو "ضرب النظام المصرفي السويسري"، ولهذا السبب بدأ الاتصالات مع محققي الضرائب الفرنسيين ابتداء من شهر أبريل/نيسان 2008، وكان اللقاء في شهر يونيو/حزيران 2008، دون أن يطلب منهم مقابلا ماليا، واعدا إياهم بالتسبب في زلزال مالي، إن دعَّموه.
في 20 مارس/آذار 2008 بدأت العدالة السويسرية في التحرك، بصفة سرية، ورصد العشيقة، ثم إيقافها في 22 ديسمبر/كانون الأول حين كانت على وشك مغادرة سويسرا، فدانت على الفور عشيقها هيرفيه، الذي غادر البلد.
هرب فالسياني من سويسرا إلى فرنسا وهو واثق من أن السلطات الفرنسية ستوفر له الحماية. وفي 26 ديسمبر/كانون الأول يلتقي، في مدينة نيس برجال الضرائب الفرنسيين ويسلمهم 5 أقراص دي في دي، تحتوي القوائم الشهيرة، ويحصل على ضمانة أن تستثمر هذه المعطيات. وقد حاول السويسريون إقناع الفرنسيين باستدعاء كل المعطيات، لكن المدعي العام في مدينة نيس، إيريك دي مونتغولفيير، رفض التخلي عن هذا الكنز. وهكذا أصبحت قضية فالسياني قضية مصرف إتش إس بي سي. وبهذه الطريقة استطاع أن ينقذ جلده من العدالة السويسرية ومن السجن، وساعدته وزارة الاقتصاد والمالية على العثور على وظيفة في جهاز شبه عمومي، المعهد الوطني للبحث في المعلوميات.
في شهر مارس 2009 أنهى هيرفيه تعاونه مع جهاز الضرائب، وتوقف في نهاية ديسمبر عن مساعدة رجال الشرطة، بعد أن أوشكت عملية استخراج المعلومات على النهاية. وقد حاولت العدالة في كثير من الدول الاقتراب من فرنسا، ومنها إيطاليا وأميركا، طلبا للمعلومات. وفي سنة 2012 يعتقل هيرفيه في إسبانيا ويظل سجينا 5 أشهر ونصف ولا يخرج إلا بعد أن وعد بمساعدة القضاء الإسباني. وفي سبتمبر 2012 حصلت بريطانيا على القوائم.
لا يتوقف هيرفيه عن السفر، إلى الأرجنتين والهند، مُطارداً التهرّب الضريبي. ينتقل في صمت، ويحظى بحماية مقربة. أصبح مهمته ورسالته، كمطلق للتحذيرات في الطريق السوي. ولكن فالسياني، على خلاف سابقه الذي باع معلوماته للألمان مقابل ملايين الدولارات، يُقرّ بصعوبات مالية تواجهه، وأنه عاطل عن العمل. ماذا عن المستقبل؟ لا يزال ينتظر اعترافا رسميا من سويسرا. ولكنه لا يستطيع العودة إلى هذا البلد. يتمنى لو أنه يغير اسمه، ويختفي، كي يعيش حياة عادية. ويتمنى ظهور قانون يُساعد الذين يساهمون في إطلاق التحذيرات. يعترف أنه ليس فارسا أبيض، ولكن ثمة شيءٌ جميل ومُحمِّسٌ في إرساء الحقيقة.
له وجوه كثيرة، أو لنقل أقنعة عديدة، إذ غالباً ما تحظى هذه المراكز الكبرى، يخاصة المالية بحراسة ذاتية رهيبة، تصل أحيانا كثيرة إلى تعميم الوشايات ونشر مناخ رهيب من القلق والريب.
من هو هذا الرجل الذي يشبه، في كثير من الجوانب، الخبيرَ في المعلوماتية اللبناني الآخر، عماد لحود، في قضية "كليرستريم" الشهيرة في فرنسا؟
نحن أمام هذا الرجل اللبناني، هيرفيه فالسياني، الخبير في المعلوماتية والقادر على اكتشاف وتلمس المعطيات الحساسة، وصاحب القدرة الشديدة على المناورة، وباعثُ الإنذارات والتحذيرات، ثم أخيرا ضحية لهذا النظام المصرفي الرهيب والمريب. ومَهْما قيل عن فالسياني، فهو يظل مُرتَكَزَ قضية إتش إس بي سي ومُولِّدَها.
بعد خمس سنوات من قراءة وتفحص ملايين من الأرشيفات الخاصة جداً ومن الاستماع لشهادات غير منشورة، يمكن التعرف على الحياة الحقيقية لهيرفيه فالسياني.
تخفَّى هيرفيه في البداية تحت اسم مستعار هو روبن الشدياق (واسم الشدياق نار على علم). وكان الجميع، في سويسرا وموناكو، يعرفون هذا العاشق للحياة (الكثير الحديث مع نزوع للادعاء والماكر والمبذّر، ولاعب البوكر الكبير وعاشق النساء، مع ميل شديد للكذب، وشدة المناوَرَة)، باسم هيرفي فالسياني. هو خبير مرموق في الإعلاميات، ابتدأ عمله في مصرف إتش إس بي سي، سنة 2006، في فرعها السويسري. وكان، سابقا، كروبييه (مديرا لمائدة القمار) في كازينو ما بين سنتي 1992 و2000. تزوج الرجل مرتين، له ابنة، وهو على أهبة الطلاق، ثانية.
والغريب أن رجلا بمثل هذه المواصفات تُعهَد إليه أسرار أحد أقوى المصارف الخاصة في العالَم، التي يشترط فيها لكل من يفتح حسابا أن يتوفر على مليون دولار، على الأقل.
وعلى الفور تُعهد إليه مهمة خاصة تتلخص في وضع نظام (CRM) [إدارة العلاقات مع الزبائن] من أجل تسهيل التبادل بين المصرف وزبائنه. وقد أبان عن مهارة كبيرة في هذه المهمة في موناكو، التي على الرغم من بساطتها فإنها طويلة ومُستنزِفة، بحيث إنه يتم نقل معطيات النظام المعلوماتي القديم، سيفيكس، التي وضعت بشكل مبوب كل تفاصيل مالكي الحسابات إلى نظام جديد، CRM.
كان الشغل الشاغل للمصرف سنة 2006 هو جعل النظام أكثر مهنية وعملياتية. ولا شك، كما يرى موظفو المصرف، أن هيرفيه اكتشف ثغرة في النظام المعلوماتي ما بين 2006 و2008، أثناء حادث ظلت فيه قوائمُ مصرف إتش إس بي سي غير مشفرَّة. وما يفسر الأمر، ربما، هو ما صرّح به أحدُ الموظفين فلورونت دونيني من أن "هيرفي كان مكلَّفا، لوحده، ببناء قاعدة البيانات CRM"، ويضيف: "هيرفي رأى بيانات إنتاج غير مشفرة، واستمر العطل ما بين 4 و5 ساعات، وكان بالإمكان أن يقوم باستنساخها".
كان من المفترض أن يقوم فالسياني بالتخلص من هذه البيانات بمجرد أن يعالَج الحادث، ولكنه، كما يقول موظف آخر، رولاند فيزا: "بارع، نسبيا، من الناحية التقنية، ولكنه، إنسانيا، شخص مناور، بله مهووس بالكذب". وهو كاف "لإطلاق ميكانيزم التدمير"، وخصوصا أن ظروف الشغل، بالنسبة لهيرفيه، بدأت تسوء، إذ اختار المصرف موديلا CRM آخَر غير الذي اختاره فالسياني، كما أن الإدارة رفضت تشغيله في وظيفة أمن شاغرة.
إذن فتوابل الانفجار مجتمعهٌ في شخصية هيرفيه: "رجل مُحبَطٌ، على المستوى المهني، ومُغامر، عاطفيا، وغير مستقر، انتهى به الأمر إلى الحصول على بيانات سرية عن زبائن المصرف ثم تكديسها".
ولكن الأمر يبقى افتراضات، فهيرفيه يقرّ بسرقة بيانات، ولكنه يشدّد على أنه استفاد من مساعدين في الداخل، بناء على محفزات أخلاقية. ويقول إنه لم تكن لديه سلطة للوصول إلى معطيات عملياتية، ولكنه كان يشتغل على كل المواضيع الحساسة، في ارتباط بموظفي المصرف، فكانوا يحكون له كل ما يحدث. وبالتالي فعن طريق هؤلاء الوسطاء استطاع هيرفيه، كما يقول، أن يصل إلى المعلومة. وينتهي به الأمر إلى "التأكد من وجود تناسق بين هذه المعطيات جميعها".
ولكن المحققين السويسريين لا يصدقون رواية هيرفيه، ويريدون محاكمته أمام القضاء الفدرالي السويسري، الذي يمتلك عناصر صلبة، تثبت أنه لم يتوفر على مساعدين ولا وجودَ لأي محفزات أخلاقية ممكنة.
وعلى أي حال فقد أصبح صاحبنا يمتلك، منذ سنة 2008، آلاف البيانات الحساسة والنادرة. أي حسابات 107181 شخصاً، من الذين يُفترض أنهم متهربون من الضرائب.
وهي قوائم تساوي الذهب. ولكنه يحاول أن يفسر الأمر بمنطق البراءة والأخلاق، "مرسل تحذيرات"، أي من أجل "إدانة ممارسات غير قانونية". قد يكون الأمر صحيحا، ولكن دراسة الوقائع تثبت أنه، في بدايات مغامرته، على الأقل، لم يكن من الطهارة والنقاء اللذين يريد أن يُسبغهما على نفسه.
وهذا ما كشفت عنه إحدى عشيقاته، جيورجينا ميخائيل، وهي لبنانية فرنسية، التي اعترفت للسلطات السويسرية سنة 2008 بأن هيرفي في بدايات علاقتهما الغرامية كشف لها أنه يمتلك قاعدة بيانات يريد أن يبادلها بالأموال حتى يُوفّر ما يمكن له أن يمنحه لزوجته في إطار الطلاق منها. وحذّرها من مغبة إفشاء خبر هذه المعلومات.
وفعلا سافر فالسياني ما بين 2 و9 شباط/فبراير 2008 إلى لبنان من أجل بيع القوائم للمصارف اللبنانية، كما تقول العشيقة ميخائيل، ولكن هيرفيه يصر على أنه كان يريد دق ناقوس الخطر، وكشف النظام الذي ساهم في صنعه. ذهب إلى لبنان، ولم يتوجه عند السلطات السويسرية لأنّ "سويسرا لم تكن تحقق حول المصارف. لا يجب أن ينخدع المرء، لأن سلطة المال تعبّر عن نفسها بهذه الطريقة.
في هذه اللحظة ظهر اسم روبن الشدياق لأول مرة. وفي هذه اللحظة ظهرت هويات ووثائق مزورة، وشركة وهمية، "بالوفرا"، تم إنشاؤها في هونغ كونغ. ادعى الشدياق أنه مسؤول تجاري لدى أربعة مصارف لبنانية، وأدخل معه في هذه المغامرة أخاه، فيليب فالسياني، في مغامرة "مشروع داتا"، والذي اعترف لاحقا بأنه كان من أجل المال.
حسب العشيقة ميخائيل، فإن هيرفيه حدّد ثمن 1000 دولار مقابل كل اسم يكشف عنه."يطلع هيرفيه المصارف على قائمة ضخمة من بروفايلات زبائن بأسماء مشفرة، بهدف بيع هذا المنتوج والمتاجرة".
والأدهى أن بعض المصارف اللبنانية توافقت مع رواية ميخائيل، وهذا ما أكده موظف في مصرف بي إن بي باريباس، ومصرف أودي. وأيضا مصرف بلومينفيست.
فالسياني لا يستقيم على رواية واحدة، كل ما يهمه هو المنفعة التي يمكن له أن يقطفها من اللحظة. فالفارق كبير بين ما قاله لرجال الدرك سنة 2009 من أنه كان له مشروع إنجاز برمجيات داتا مينيغ وما قاله للقاضي رونو فان رويمبيك، سنة 2013 من أن "هدفه الوحيد هو إطلاق تحذير لمصرف لبناني، هو فرع لمصرف سويسري، حتى يبعث هذا الأخير هذا التحذير للادعاء الفيدرالي السويسري، من أجل وضع حد لانعدام الشفافية في مصرف إتش إس بي سي".
لم يكن هيرفيه السبّاق في هذا العمل، بل سبقه في ربيع 2008 موظف في مصرف إل جي تي في ليشتنشتاين، باع قوائم أقل أهمية من قوائم هيرفيه لجهاز الضرائب الألماني مقابل 5 ملايين يورو. ويعترف هيرفيه أن هدفه الوحيد هو "ضرب النظام المصرفي السويسري"، ولهذا السبب بدأ الاتصالات مع محققي الضرائب الفرنسيين ابتداء من شهر أبريل/نيسان 2008، وكان اللقاء في شهر يونيو/حزيران 2008، دون أن يطلب منهم مقابلا ماليا، واعدا إياهم بالتسبب في زلزال مالي، إن دعَّموه.
في 20 مارس/آذار 2008 بدأت العدالة السويسرية في التحرك، بصفة سرية، ورصد العشيقة، ثم إيقافها في 22 ديسمبر/كانون الأول حين كانت على وشك مغادرة سويسرا، فدانت على الفور عشيقها هيرفيه، الذي غادر البلد.
هرب فالسياني من سويسرا إلى فرنسا وهو واثق من أن السلطات الفرنسية ستوفر له الحماية. وفي 26 ديسمبر/كانون الأول يلتقي، في مدينة نيس برجال الضرائب الفرنسيين ويسلمهم 5 أقراص دي في دي، تحتوي القوائم الشهيرة، ويحصل على ضمانة أن تستثمر هذه المعطيات. وقد حاول السويسريون إقناع الفرنسيين باستدعاء كل المعطيات، لكن المدعي العام في مدينة نيس، إيريك دي مونتغولفيير، رفض التخلي عن هذا الكنز. وهكذا أصبحت قضية فالسياني قضية مصرف إتش إس بي سي. وبهذه الطريقة استطاع أن ينقذ جلده من العدالة السويسرية ومن السجن، وساعدته وزارة الاقتصاد والمالية على العثور على وظيفة في جهاز شبه عمومي، المعهد الوطني للبحث في المعلوميات.
في شهر مارس 2009 أنهى هيرفيه تعاونه مع جهاز الضرائب، وتوقف في نهاية ديسمبر عن مساعدة رجال الشرطة، بعد أن أوشكت عملية استخراج المعلومات على النهاية. وقد حاولت العدالة في كثير من الدول الاقتراب من فرنسا، ومنها إيطاليا وأميركا، طلبا للمعلومات. وفي سنة 2012 يعتقل هيرفيه في إسبانيا ويظل سجينا 5 أشهر ونصف ولا يخرج إلا بعد أن وعد بمساعدة القضاء الإسباني. وفي سبتمبر 2012 حصلت بريطانيا على القوائم.
لا يتوقف هيرفيه عن السفر، إلى الأرجنتين والهند، مُطارداً التهرّب الضريبي. ينتقل في صمت، ويحظى بحماية مقربة. أصبح مهمته ورسالته، كمطلق للتحذيرات في الطريق السوي. ولكن فالسياني، على خلاف سابقه الذي باع معلوماته للألمان مقابل ملايين الدولارات، يُقرّ بصعوبات مالية تواجهه، وأنه عاطل عن العمل. ماذا عن المستقبل؟ لا يزال ينتظر اعترافا رسميا من سويسرا. ولكنه لا يستطيع العودة إلى هذا البلد. يتمنى لو أنه يغير اسمه، ويختفي، كي يعيش حياة عادية. ويتمنى ظهور قانون يُساعد الذين يساهمون في إطلاق التحذيرات. يعترف أنه ليس فارسا أبيض، ولكن ثمة شيءٌ جميل ومُحمِّسٌ في إرساء الحقيقة.
0 التعليقات Blogger 0 Facebook
إرسال تعليق